الأغنية الدائرية
"كانت دائرة من أجساد الأطفال الصغيرة تلف وتدور حول نفسها أمام عيني، كل يوم، وفي أي وقت أنزل فيه من بيتي، وصورة غنائهم الحاد الرفيع يدور مع حركة أجسادهم في أغنية واحدة، لها مقطع واحد، يتكرر في دورة متصلة لا تنقطع: حميدة ولدت ولد، سمته عبد الصمد، سابقة ع الأنايا، خطفت رأسه الحدايا حديا حد..يا مبرز القرد! يكررون الأغنية..خيلّ إليّ (والخيال في تلك اللحظة كان حقيقة) إن طفلاً من الأطفال المنشدين المتماسكين بالأيدي على شكل دائرة تدور خرج فجأة من الدائرة. رأيت جسمه الصغير ينفصل عن الخط الدائري المنتظم في دورانه كنقطة لامعة محددة. كنجم فقد توازنه الأبدي فانفصل من الكون اللانهائي، واندفع بحركة عشوائية سريعة متوهجاً بشعلة كالشهب قبل أن تحترق.
وباستطلاع عزيزي تابعت عيني حركته. وحين توقف كان قد أصبح بالقرب مني. رأيت وجهه، لم يكن طفلاً ذكراً، كان أنثى، لم أعرف عن يقين أنها أنثى، فوجوه الأطفال كوجوه العجائز لا جنس لها. وبين الطفولة والشيخوخة مرحلة يضطر فيها الإنسان إلى الإعلان عن جنسه بوضوح أكثر ملحّة هي تلك النظرة الناقدة التي تتفحص نوال السعداوي عبرها مجتمعها الذي يغلي بعادات وبأفكار تسحق الأنوثة، ولولا تحريم الوقد، تسق الأنثى في مهدها.
تجذب انسياب معاني نوال السعداوي وسيولتها القارئ، ليتخذ له زاوية يرقب من خلالها الأحداث، مستجمعاً عندها كل حواسه، كل مشاعره التي تنساب دون قصد منه لتتباهى مع حميدة تلك الشخصية التي جسدت الأنثى المقهورة في تلك "الأغنية الدائرية"